lunedì 9 dicembre 2013
History of clashes.
حلايب والفشقة بين مياه النيل وسدِّ النهضة
12-08-2013 11:17 AM
د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
تتداخل وتتشابك التطوّرات السياسيّة والقرارات حول المجاري المائية الدولية بصورةٍ كبيرةٍ في معظم دول العالم التي تتشارك هذه المجاري. لكنّ هذا التداخل والتشابك يبدو واضحاً للعيان وبصورةً أكبر في حوض النيل.
فقد حدثتنا كتب التاريخ السودانية أن محمد علي باشا فتح السودان في عام 1820 من أجل المال والرجال. إلّا أنّ الحقيقة الكبرى هي أن غزو محمد علي باشا للسودان كان هدفه الأساسي هو الوصول إلى منابع النيل وضمِّها مع السودان لامبراطوريته الجديدة بغرض تأمين وصول مياه النيل كاملةً لمصر. لذا فقد قام محمد علي باشا بإرسال المستكشفين والإداريين والجيوش إلى جنوب السودان ومنه إلى أواسط أفريقيا بحثاً عن منابع النيل واحتلالها وتأمينها، قبل أن يرسل رجاله إلى جبال بني شنقول للتنقيب عن الذهب.
كذلك كان الحال بالنسبة للغزو الإنجليزي المصري للسودان عام 1898. فقد كان أول أمرٍ صدر لكتشنر بعد استلامه الخرطوم، وقبل أن ينتهي من إجراءات تأمينها، هو الإبحار جنوباً وطرد الكتيبة الفرنسية التي وصلت ورابطت في قرية فشودة على النيل الأبيض في جنوب السودان، ثم طرد البلجيك من منطقة الرجاف على بحر الجبل. وكان الغرض من الحملتين هو السيطرة الكاملة لبريطانيا على النيل من منابعه في بحيرة فكتوريا حتى مصبه من مصر في البحر الأبيض المتوسط.
2
وتواصل صِراعُ القُوى الكبرى على نهر النيل. فبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وتدهورِ علاقات مصر مع الغرب قفزَ الاتحاد السوفيتي في مياه النيل معلناً موافقته على تمويل وبناء السد العالي. كان ذلك حدثاً جللاً زاد من حِدّة الحرب الباردة المتأجِّجة وقتها. وقد كانت ردّة الفعل الأمريكية هي وصول الخبراء الأمريكيين إلى أديس أبابا وبدء دراساتٍ مكثّفة للسدود التي يمكن لإثيوبيا بناؤها على النيل الأزرق ونهر عطبرة ونهر سوباط.
وعندما طرد الرئيس السادات الخبراء السوفيت من مصر في عام 1972، بعد اكتمال السد العالي، أرسلت موسكو عدداً كبيراً منهم بعد فترةٍ قصيرة إلى إديس أبابا لمناصرة نظام منقستو هايلي مريم الماركسي الذي كان قد استولى على السلطة في إثيوبيا. ورغم اكتمال الدراسات لسدود اثيوبيا إلا أن حروبها في إريتريا وضد الصومال ونزاعاتها الداخلية وفقرها المدقع ذاك الوقت حالت دون تنفيذ تلك الدراسات. كما أن السوفيت لم يكونوا مستعدين لتمويل وبناء سدٍّ آخر بعد خسارتهم السد العالي. لكنَّ وجودَهم في منابع النيل الأزرق كان كافياً ليثير القلق في القاهرة وعواصم الغرب.
3
تواصلَ ويتواصلُ تداخلُ وتشابكُ مياه النيل والتطورات السياسية في عدّة مناحي. لكن دعونا نقفز على عجلٍ على سفينة الأحداث التي تسارعتْ في حوض النيل في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر عام 2013. فقد وصل رئيس الوزراء الإثيوبي السيد هايلي مريم ديسالين إلى السودان في الثالث من ديسمبر في رحلة غطّتها وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية تغطيةً مكثّفة، زار فيها القضارف وسدَّ مروي. وأعلن السودان وإثيوبيا توقيعهما على ثلاث عشرة اتفاقية منها اتفاقية الربط الكهربائي بين البلدين، وبيع الكهرباء الإثيوبية للسودان، والتي سترتفع تدريجياً من مائة ميقاواط إلى ثلاثمائة ميقاواط. وشمل التوقيع أيضاً اتفاقية إنهاء النزاع حول منطقة الفشقة. وهكذا برزت قضية الفشقة إلى سطح الأحداث بعد صمتٍ سودانيٍ طويل.
لكن أهم أحداث تلك الزيارة كان تأييد السودان في الرابع من ديسمبر على لسان السيد رئيس الجمهورية نفسه صراحةً لسدِّ النهضة الإثيوبي. وقد أنهى ذلك التأييد حالة الارتباك السودانية تجاه السدّ التي سادت خلال العامين الماضيين. وقد نتج ذلك الارتباك من العلاقة الوطيدة مع مصر التي تعارض السدَّ بشدّة. لذا فقد أوضح الرئيس أن تأييد السودان للسدِّ ليس لأسباب سياسية. وقد كانت تلك إشارةً واضحةً إلى التغييرات الأخيرة في مصر والتي أطاح فيها الجيش بنظام مرسي الإسلامي.
لهذه الأسباب فقد سافر وزير الموارد المائية والكهرباء السوداني السيد أسامة عبد الله إلى القاهرة قبل يومٍ من وصول رئيس الوزراء الإثيوبي إلى الخرطوم. وقد كان الغرض من الزيارة، كما ذكرت البيانات الرسمية الحكومية، هو تنسيق الموقف السوداني-المصري حول قضايا نهر النيل وسد النهضة الإثيوبي. لكن كما يبدو فقد كان الغرض الحقيقي من تلك الزيارة هو تهدئة الجانب المصري من زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي المرتقبة للسودان. غير أن لقاء الوزير السوداني بنظيره المصري الدكتور محمد عبد المطلب لم يبدّد الغضب والقلق المصري من التقارب السوداني الإثيوبي الجديد، كما وضح من البيانات والتعليقات المصرية.
وهكذا طغت قضايا مياه النيل وسدِّ النهضة الإثيوبي ومنطقة الفشقة على الزيارتين وعلى الأحداث في الدول الثلاثة ذلك الأسبوع. لكنّ الغائبَ الأكبرَ من تلك الأحداث والزيارتين كان نزاع حلايب. وهذا يفسّر في رأينا تطور الأحداث ووصولها إلى ما وصلت إليه من تأييد السودان لسد النهضة و ميلاد التحالف السوداني الإثيوبي الجديد، وفي المقابل اتفاق الطرفين حول منطقة الفشقة، كما سنجادل في هذا المقال.
4
تقع منطقة الفشقة في الجزء الشمالي الشرقي من السودان، غرب الحدود مع إثيوبيا مباشرةً جنوب حدود السودان مع إريتريا. ومنطقة الفشقة، مثلها مثل حلايب، يقع معظمها في شكل مثلث، ضلعه الشمالي هو نهر سيتيت، والغربي هو نهر عطبرة، بينما تمثّل الحدود الإثيوبية الضلع الثالث شرقاً. مساحة مثلث الفشقة هي حوالى 250 كيلومتر مربع. ولكن بما أن المنطقة زراعية فإنها تُقاسُ أيضا بالأفدنة، وتبلغ مساحتها حوالى 600,000 فدان، يقسمها نهر باسلام بين الفشقة الكبرى التي تقع شماله، والفشقة الصغرى إلى الجنوب منه. وبالإضافة إلى أنهر عطبرة وسيتيت وباسلام فالأمطار تهطل بغزارة من شهر يونيو حتى شهر سبتمبر من كل عام، مما يجعل المنطقة غنيةً بالموارد المائية، مع تربةٍ خصبة ومناخٍ معتدل. كل ذلك جعلها من أكثر المناطق في السودان إنتاجاً للذرة والسمسم والقطن قصير التيلة.
كانت اتفاقية الحدود مع إثيوبيا في عام 1902 قد وضعت المنطقة داخل حدود السودان. غير أن مزارعين إثيوبيين كانوا موجودين وظلوا في المنطقة. كما بدأ آخرون في التسلّل للمنطقة والدخول في نزاعات مع المزارعين السودانيين هناك، تحرسهم في معظم الأحيان فرق جيشٍ إثيوبية. وتواصَلَ التسلّل والاستيطان الإثيوبي في منطقة الفشقة عبر السنين.
ورغم أن اتفاقية الامبراطور هيلاسيلاسي والرئيس السابق جعفر نميري في عام 1972 قد أكّدت تبعيّة المنطقة للسودان، إلا أن التسلّل الإثيوبي في تلك الأراضي السودانية ونزعها وزراعتها تواصلَ وامتد غرباً حتى نهر عطبرة. وقد تجاهلت الحكومات المتعاقبة في الخرطوم ذلك الوضع مما فتح شهيّة المزارعين الإثيوبيين وحكومات أديس أبابا، وشجعهم على مواصلة الزحف والبقاء داخل منطقة الفشقة.
ويبدو أن قرب المنطقة من إثيوبيا وانعزالها بسبب الأنهار والوديان والجبال، وانشغال الحكومات السودانية بحروبها في الجنوب ثم في دارفور، قد جعل الخرطوم تغضُّ الطرف عن الوجود الإثيوبي بها. كما يبدو أيضا أن إثيوبيا كانت تنوي مقايضة أراضي الفشقة بمناطق حدودية أخرى متنازع عليها بين البلدين. عليه فقد تواصل تكوين اللجان واجتماعاتها، والتصريحات بحلٍ سريعٍ متوقّعٍ للنزاع فى منطقة الفشقة.
ثم جاء اعتراف السفير الإثيوبيي في السودان في أبريل عام 2010 صراحةً بتبعية المنطقة للسودان. وقد أتى ذلك التصريح قبل شهرٍ من توقيع إثيوبيا وأربع دولٍ أخرى على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل (اتفاقية عنتبي) في مايو عام 2010، مُوضّحا الترابط بين الاثنين. لكن الوجود الإثيوبي تواصل في الفشقة.
5
خلال هذه الفترة تلاحقت التطورات في نهر النيل، وفجّرت إثيوبيا في أبريل عام 2011 قنبلتها بإعلانها الشروع في بناء سدِّ النهضة على النيل الأزرق على بعد 40 كيلومتر من الحدود السودانية ليصبح أكبر سدٍّ في أفريقيا والعاشر في العالم. ثم فجّرت إثيوبيا القنبلة الأكبر في مايو عام 2013 بإعلانها تحويل مجرى النيل الأزرق إيذاناً ببدء العمل في السد. وفي يونيو عام 2013 أعلنت مصر رفضها القاطع لبناء السدّ واستعدادها للمواجهة العسكرية لوقف بنائه.
لكن اختيار إثيوبيا للتوقيتين لم يكن مصادفةً. فمصر كانت قد بدأت في الغرق في مشاكلها السياسية والاقتصادية بعد عامٍ من الثورة التي أطاحت بالرئيس مبارك. ثم جاءت إطاحة الجيش بالرئيس مرسي. وساد موقف السودان ارتباكٌ كبير (أو تبادلٌ للأدوار؟) بين التأييد للسدِّ يوماً، ومعارضته اليوم التالي.
وقد أبرزت إثيوبيا كرت الفشقة بعد شهورٍ من إعلانها بناء سدِّ النهضة عندما أشارت مرةً أخرى إلى تبعيّة المنطقة للسودان واستعدادها للتفاوض حولها. من الجانب الآخر فقد أزاح انفصال جنوب السودان من أجندة الخرطوم وأديس أبابا النزاع الحدودي حول مثلث اليمي، ليصبح ذلك النزاع بين أديس أبابا ونيروبي وجوبا.
6
بعد إعلان إثيوبيا قرار بناء سدِّ النهضة تواصلت زيارات رئيس الوزراء السابق السيد ميليس زيناوي، ومن بعده رئيس الوزراء الحالي السيد هايلي مريم ديسالين للسودان. وتبعتها عدّةُ زياراتٍ للرئيس البشير لإثيوبيا وتبرعه السخي لإنشاء مركز ميليس زيناوي الثقافي.
ثم جاءت زيارة السيد هايلي مريم ديسالين التاريخية للخرطوم في الثالث من ديسمبر عام 2013، كما ذكرنا أعلاه، وتوقيع الاتفاقيات الثلاث عشرة بين البلدين، ومن بينها اتفاقية إنهاء النزاع في منطقة الفشقة وبقية المناطق الحدودية. وجاء تأييد الرئيس عمر البشير الصريح والواضح في الرابع من ديسمبر عام 2013 لسدِّ النهضة الإثيوبي وتأكيده للفوائد الكبيرة التي سيجنيها السودان من السدّ. بل إن الرئيس البشير أوضح أن سدَّ تكزِّي الذي أكملت إثيوبيا بناءه على نهر عطبرة عام 2011 سوف يزيد الطاقة التي سيولّدها سدُّ سيتيت/أعالي عطبرة في السودان من 120 ميقاواط إلى 320 ميقاواط بسبب تنظيم سدِّ تكزّي لسريان نهر عطبرة طوال العام بدلاً من موسميّته (من شهر يونيو حتى شهر أكتوبر) قبل بناء سدِّ تكّزي. وهذا بدوره يؤكّد الدور الإيجابي المُتوقّع لسدِّ النهضة في زيادة توليد الكهرباء من سدِّ مروي بتنظيم سدِّ النهضة لانسياب النيل الأزرق طوال العام، بدلاً من موسميته الحالية. وبهذا سوف يساعد سدُّ النهضة في حلحلة مشاكل سدِّ مروي ويرفع طاقته التوليدية.
ترى هل كان الاتفاق حول الفشقة هو الجزرة الرئيسية التي جعلت السودان يعلن على لسان السيد رئيس الجمهورية تأييد السودان الواضح والصريح لسدِّ النهضة؟ إن المراقب للأحداث لن يفشل في الوصول لهذا الربط (مع أسبابٍ أخرى بالطبع)، خصوصاً عندما نقارن ما يحدث في منطقة الفشقة بما يحدث في منطقة حلايب.
7
تبلغ مساحة مثلث حلايب 20,580 كيلومتر مربع (حوالى ضعف مساحة منطقة أبيي كما حدّدتها محكمة التحكيم الدولية في عام 2009، وحوالي ثمانين مرة من مساحة منطقة الفشقة). ويقع المثلث شمال خط 22 شمال، مُطِلاً على البحر الأحمر بحوالى ستة ألف كيلومتر. وتضيف إطلالة مثلث حلايب على البحر الأحمر حقوقاً بحرية كبيرة في البحر الأحمر ستجنيها الدولة التي يقع المثلث ضمن أراضيها.
برز نزاع حلايب إلى الوجود في بداية عام 1958 عندما قرّرتْ مصر إجراء استفتاء الوحدة مع سوريا في كلٍ من الدولتين، بما في ذلك منطقة حلايب. رفض السودانُ ذلك الإجراء وذكّرَ مصرَ أن حلايب أراضي سودانية. ردّت مصر أن خط 22 شمال هو الخط الحدودي بين البلدين، وأنه خطٌ أحمر لا يمكن عبوره، وعليه فإن حلايب أراضي مصرية.
أكّد السودان تبعية حلايب لأراضيه وأعلن أنه سيُجرِي انتخاباته البرلمانية كما كان مخططاً لها في حلايب في فبراير من ذلك العام. احتدم النزاع وأرسلت مصرُ كتيبةً عسكرية إلى حلايب، وقام السودان بإرسال كتيبته العسكرية كذلك. سافر وزير الخارجية السيد محمد أحمد محجوب إلى القاهرة والتقى الرئيس عبد الناصر في 19 فبراير عام 1958. اقترح الرئيس عبد الناصر حلاً وسطاً بوقف الاستفتاء المصري والانتخابات السودانية ومناقشة الأمر بعد الانتهاء من الاثنين. غير أن حكومة السيد عبد الله خليل رفضت ذلك المقترح، وقدّمت شكوى إلى مجلس الأمن في 20 فبراير عام 1958. تراجعتْ مصر عن قرار إقامة استفتائها، وسمحتْ للسودان على لسان مندوبها في مجلس الأمن السيد عمر لطفي بإجراء انتخاباته، وأوقفت إجراءات استفتائها وسحبت كتيبتها العسكرية. وحفظ مجلس الأمن شكوى السودان.
8
تنفّس الجميع الصعداء. واعتقد السودانيون أن حلايب قد عادت إلى السودان كاملةً سالمة، وأن العلاقة مع الإخوة والأخوات في مصر قد عادت إلى ما كانت عليه. وعمّت الابتهاجات والاحتفالات البلاد وتصاعدت أسهم رئيس الوزراء وحزبه جراء ذلك الانتصار الحاسم والسريع.
تُرى ماذا كان في ذهن الرئيس عبد الناصر ومستشاريه عندما قرروا الانسحاب من حلايب؟
لا بد أن مشروع السد العالي وترحيل أهالي حلفا كان السبب الرئيسي لتلك التنازلات التي قدموها في حلايب في فبراير عام 1958. فلم يكن منطقياً دبلوماسياً ولا عملياً أن تتمسّك مصر باحتلال حلايب وتطالب السودان بإغراق حلفا وقراها بعد ذلك من أجل قيام السد العالي. عليه فقد قرّرت مصر النظر إلى الصورة الكبرى والانسحاب من حلايب على أمل موافقة السودان على قيام السد العالي وإغراق مدينة حلفا و27 من القرى حولها و200,000 فدان من الأراضي الخصبة. وهذا بالضبط ما حدث عندما وقّعت حكومة الفريق عبود على اتفاقية مياه النيل لعام 1959، ووافقت على إغراق منطقة وادي حلفا وقراها والترحيل القسري لحوالى خمسين ألف من النوبيين السودانيين. بل إن مصر وافقت على ترحيل القرى الثلاثة (سره وفرس ودبيره) التي كانت تقع شمال خط 22 شمال مع القرى السودانية الأخرى إلى منطقة خشم القربة. وقد نَسَفَ ذلك الترحيل وموافقة مصر عليه إدعاء مصر بقدسيّة خط 22 شمال كفاصلٍ حدوديٍ بين البلدين.
هل كانت حكومة الفريق عبود ستوافق على إغراق مدينة حلفا وقراها لو أصرَّ الرئيس عبد الناصر على احتلاله لمنطقة حلايب؟ لا أظن أنّه يمكن لأحدٍ أن يعتقد بإمكانية حدوث ذلك.
غير أنه لا بد من التساؤل: لماذا لم تُصِرْ حكومة السيد عبد الله خليل على توقيع اتفاقية (أو حتى تبادل مذكرات) مع مصر حول الوضع النهائي لمنطقة حلايب وتبعيتها للسودان بدلاً من الاكتفاء بالتأكيدات المصرية الشفهية؟
9
ظلت حلايب تحت الإدارة السودانية الكاملة من عام 1958 وحتى عام 1992 عندما دخلتها القوات المصرية إثر تدهور العلاقات مع مصر ومصادرة الممتلكات المصرية في السودان بواسطة حكومة الإنقاذ. ثم قرّرت مصرُ أن حلايب أراضي مصرية وأعلنت ضمّها رسمياً لمصر في عام 1995 إثر محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك الفاشلة في أديس أبابا والتي اتُهِمتْ فيها مجموعةٌ من قادة حكومة الإنقاذ والحزب الحاكم.
وساد ملف حلايب بعد احتلالها بواسطة مصر عام 1995 صمتٌ سودانيٌ متكاملٌ من الحكومة والمعارضة معاً. وتواصل ذلك الصمت حتى فجّرته زيارة الرئيس المصري السابق الدكتور محمد مرسي للسودان في 5 أبريل عام 2013 عندما أعلن استعداده لإعادة حلايب للسودان. لكن ذلك الإعلان قُوبل برفضٍ كاملٍ وفوريٍ في مصر. وتدخّل الجيش المصري بسرعةٍ مذهلة، وقام الفريق السيسي (حتى قبل أن يقيلَ الرئيسَ مرسي ويستلم السلطة) بإرسال الفريق صدقي صبحي بعد أقل من ثلاثة أسابيع من زيارة الرئيس مرسي للسودان. وأشارت وكالات الأنباء إلى "أن الفريق صدقي حمل رسائل واضحة ومحددة ومباشرة من وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي، إلى نظيره السوداني، تتعلق بقضية حلايب وشلاتين، مشيراً إلى أن القوات المسلحة المصرية لن تفرط في شبرٍ واحدة من هذه الأرضي." واتبعت الأحزاب والتنظيمات المصرية الأخرى جميعها (اليمينية واليسارية، والدينية والعلمانية) نفس الموقف المتشدّد الذي أعلنه الجيش المصري.
وعاد الفريق السيسي ليؤكّد هذا الموقف المتشدّد تجاه حلايب في أغسطس عام 2013 بعد شهرٍ من استلامه السلطة في القاهرة وإقصائه الرئيس مرسي في 3 يوليو عام 2013. بل إن المتابع للتطورات السياسية في مصر قد يلاحظ أن حلايب كانت إحدى المبررات لاستيلاء الجيش على السلطة في مصر وخلع الرئيس مرسي.
لم تكن مصر عندما احتلت حلايب في عام 1992 تحتاج إلى السودان لبناء السد العالي، أو لمنح السودان لها سلفة مائية. فقد اكتمل السد العالي عام 1971، ولم يطالب السودانُ مصرَ برد سلفته لها من مياه النيل التي كان يُفترض انتهاؤها في عام 1977. ليس هذا فحسب، بل إن السودان قد فشل حتى في استعمال نصيبه من مياه النيل وأصبح يمدُّ مصرَ كل عام بستة مليار متر مكعب ونصف من نصيبه لم يقدر خلال العقود الخمسة الماضية على استخدامها. حدث ذلك رغم الإدعاءات المتواصلة من وزراء الري السابقين ومستشاريهم عن خطط واستراتيجيات السودان المائية المتكاملة.
10
رفضت مصر وكرّرت رفضها التفاوض حول حلايب أو إحالة النزاع إلى التحكيم. بل أعلنتها بوضوح على لسان من هم في السلطة في القاهرة الآن (وعددٍ من الكتّاب المصريين) أن ملف حلايب مُغلقٌ ولن يتم فتحه. من الجانب الآخر واصلت إثيوبيا إدعاءها أنها مستعدة للتفاوض حول الفشقة وتبعت ذلك باتفاقية لا نعرف بعد تفاصيلها ولكن يبدو أنها أعادت جزءاً من الفشقة، إن لم نقل كلها، للسودان. وكان المقابل تأييد السيد رئيس الجمهورية الواضح لسدِّ النهضة. إننا نأمل أن تفصح الحكومة عن اتفاق الفشقة ليعرف الشعب السوداني مضمونه.
11
هل سيعني اتفاق الفشقة وتأييد السودان لسدِّ النهضة وميلاد الحلف الإثيوبي السوداني الجديد ضياع حلايب من السودان؟ وهل قرّرتْ حكومة الإنقاذ أن استعادة حلايب قد انقضى أجلها وأنه من الخير لها أن تقايضَ تأييد سدِّ النهضة بعودة الفشقة، بعد أن تأكّد لها أنها لن تستعيد حلايب بمعارضة سدِّ النهضة؟
أم أن مصر سوف تقرّر، بعد أن أصبح سدُّ النهضة الإثيوبي حقيقةً واقعة وأيّده السودان، وأصبحت مصر الرافضَ الوحيدَ له بين دول حوض النيل الإحدى عشرة، قبولَ العرضِ الإثيوبي لها وللسودان بالتمويل والإدارة والملكية المشتركة لسدِّ النهضة (كما ظللنا نقترح منذ فترة من الزمن)، وتفتح مصر بذلك باب التعاون الجاد حول مياه النيل، وحول القضايا والنزاعات الأخرى (بما فيها قضية حلايب)؟
إن ما حدث في الأسبوع الأول من ديسمبر عام 2013 في حوض النيل هو دون شكٍّ تطورٌ كبيرٌ يوضّح بجلاء الارتباط المحكم بين السياسة والمياه الدولية. غير أن الأشهر والأحداث القادمة (بدءاً باجتماع ديسمبر للجنة الثلاثية لسد النهضة هذا الأسبوع) كفيلةٌ بالإجابة على هذه التساؤلات.
Salmanmasalman@gmail.com
www.salmanmasalman.org
Iscriviti a:
Commenti sul post (Atom)
Nessun commento:
Posta un commento